26 يونيو 2015

لا وربِّ لم أُذِقهُ سُماً



جلست على رمالِ الصحراءِ باكيةً بيأسٍ وحسرةٍ .. بعد أن أنهكها المسيرُ نهاراً وهي
 تبتعدُ عن بلادِ محبوبها حتى توارت عن ناظريها ..
فقد سارت في الصحراءِ بلا زادٍ ولا ماءٍ ليلةً كاملةً ..
فقالت بصوتٍ جريح :-
قالوا عني : أتتنا غريبةً ، تائهةً ، مذعورةً ،
فآوينها وكُنا لها محسنينا ..
وقالوا : لم تكُن تُظهِرُ شرها ، فحسِبناها
ابنةَ قومٍ طيبينا ..
تلفتت يميناً ويساراً فقالت : إنني حقاً ابنةُ أُناسٍ طيبينَ لولا أن غدرت بيَ الأيامُ واستولى
جيشُ الغزاةِ على بلادي ما كنتُ هنا .. في أرضِهم ..
تتأملُ السماءَ ودمعها ينهمرُ بشدةٍ فتصرخُ وتقولُ :-
قالوا خطفت قلبَ فارسٍ من قومنا ..
ما كنتُ خاطفةً , بل فؤادي لِفارسهم باتَ ملهوفُ ..
فيزدادُ دمعها وتقولَ :-
قالوا .. وقالوا بأنني سارقةً ..
وما سرقتُ ولكنَ شوقي لهُ فاضحٌ وشوقهُ كانَ لقلبي سهماً مصوبُ
سرقني  .. سرقني من نفسي وسجنني خلفَ قضبانِ قلبٍ .. لم أكُن أعلمُ بأنهُ
محكومٌ عليهِ بأنه غيرِ ابنتِهم لا يعشقُ ..
تتأملُ يداها المحترقتانِ من أثرِ الرمالِ الحارقةِ في الصحراء .. فتنظر بعيداً نحوَ
ديارِ محبوبها .. وتطلقُ الآهاتَ كأنها تريدُ أن يترددُ صدى صوتها لعلهُ يسمعُ فيجيب :-
آآآآهٍ وآآآآهٍ من عشيرتكَ ويحهم ..
ويحهُم .. كانوا يعلمونَ بأنني ،
كنتُ للحياءِ لباساً ناصعاً ، وأنت
من أضحى بحيائي شغوفُ ..
ألا يعلمونَ كم كُنتُ لإحسانهم وفيةً ،
ولعطفِهم شاكرةً ولستُ لأمانتهم أخونُ ..
فكيفَ أسرِقُ قلبَكَ وقد حموني من بطشِ
 بيداءٍ كُنتُ بها تائهةً ..لا أعلمُ أينَ من
 غدرِ ليلِها ألوذُ ..
ويحهم ما فعلوا بي .. ظلموني ..
وقالوا :
جعلت عزيزَ قومنا مُتيمٌ بها ، أسحرٌ ألقتهُ في قلبهِ أم أذاقتهُ سُمَ حبها ، فتركتهُ .. فتركتهُ
صريعَ لوعاتِه يئنُ ليلاً وفي النهارِ ينوحُ ..
تُجففُ دمعها وتحاولُ الوقوفَ لتكملَ المسير .. فتنظر أمامها في الأفق البعيدِ لعلها تجدُ
من يراها ويسعفها بشربةِ ماءٍ تروي ظمأها وتكملُ قائلةً :-
لا وربِّ لم أُذِقهُ سُماً ، لكنَ قدري بأن أُحبَ قلباً بِهِ غيري مُعلقٌ ،،
وكيفَ لي أن أستوطِنُ قلباً .. ليسَ مُلكي .. ليسَ مُلكي ولن يكونُ ..
ظلموني وقالوا ساحرةً ولا يعلمونَ بأن قلبي بفتاهم باتَ مسحورُ ..
وقفت وبدأت تسيرُ ببطءٍ وتتذكرُ حينَ طردها قومهُ من ديارهم ولم يُحاول أن يقفَ معها
ويدافعُ عنها لأنهُ حينَ سمعَ بمكرِ قومهِ لم يتمالك نفسهُ وحاولَ إخبارها ليهربا معاً ..
لكنهم منعوهُ ظناً منهم أنها سحرتهُ .. فلم تكن نتيجةَ فعلتهم بعد أن حاصروهُ إلا أنهُ حاول
قتلَ نفسه .. فدخل في غيبوبةٍ وصار بين الحياةِ والموت لا حول ولا قوةَ ..
فقالت مخنوقةَ الأنفاسِ بالكادِ تخرجُ الكلماتُ من شفتاها :-
ليتهُ .. ليتهُ قبلَ أن يُصابَ بغيبوبةَ الفراقِ أظهرَ حقيقةَ عشقهِ لي أمامهم  ..
لكنهُ في قلبهِ أخفاها .. ولم يعترف بأنهُ هو المتيمُ وأنهُ هو من بدأ بالعشقِ واستمالني نحوهُ ..
فتركني .. تركني لظُلمِهم ولم ينصفني قبل انتحارهِ وبالحقيقةِ لهم يبوحُ ..
فقد كانَ منذُ سنينَ مضت يزورُ ديارنا ، وكنتُ لهُ حلماً لا يلبثُ منهُ يصحو حتى بتفاصيلِهِ للثمالةِ يعودُ ..
كم كُنتُ لحبهِ رادعةً قلبي ، ولم أكن يوماً لأسرقَ قلبهُ من ابنتهم ، لكنَ سهم الهوى
عندما يصيبُ لا يرحمُ ولا يكونُ بالقلوبِ رؤوفُ ..
جن الليلُ ومن شدةِ التعبِ ألقت بنفسها على الرمالِ ولم تشعر بشيء حتى غرقت في نومٍ
عميقٍ .. فرأت في منامها بأنها تقفُ  أمامهم ومحبوبها شبهُ مستفيقٌ .. فقالت لهُ : -
ظلموني وليتهم قبل ظلمي سألوني وليتهم قبلَ أن يحكموا على قلبي قتلوني ..
قالوا وقالوا وقالوا .. وأنت على فراشِ الهلاكِ لا تُحركُ ساكناً ، غيرَ  أنكَ كنت بإسمي تهذي وتقولُ ..
يا قومي اتركوها لترحلَ عن ديارنا .. لا تؤذوها فإنني أنا الذي بغرامها مفتونُ ..
ويسألونكَ ما سِرُ افتتانِكَ بعاهرةٍ أتتنا من ديارٍ السِحرةِ ؟
أُنظر لحالكَ .. ُنظر لحالكَ كأنكَ ذبيحٌ .. أو .. فاقدَ العقلِ مجنونُ ..
آآآهٍ منكَ يا حبيبي فكم أسعدتني حين قلت لهم :-
إن  كنتُ مجنوناً .. فبها ..
وما ألذَ طعمَ الجنونِ حينَ تكونُ هي الجنونُ ..
استفاق من حلمها مذعورةً تتمنى لو أن الشمس أشرقت لكنها وجدت نفسها
لا تزالُ تحت رداءِ السماء الحالك الظلمةَ والذئابُ تعوي فقامت تجري تحاول الهروبَ فقالت في نفسها :-
بل الذئابُ هم قومكَ الظالمينَ الذين قتلونا .. فلا توجدُ ذئابٌ هنا ..
فتعثرت بحجرٍ وسقط فوجدت نفسها على مشارفِ ديارها وكان الغزاةُ قد رحلوا فاطمئن
قلبها .. وقفت بغيرِ توازن حتى وصلت  حدودَ ديارها وهي ترددُ بأن الحبَ العذري الحقيقي
هو الذي يسكن القلوبَ والأرواحِ .. فمهما ابتعدتِ الأجسادُ يظلُ الحب النقيُ خالداً في القلوبِ ..
فنظرت إلى الطريقِ خلفها وقالت بأسى :
وصرنا ضحايا تقاليدَ قومٍ ..
لا يعرفونَ أن الروحَ في ا
لروحِ تهيمُ وتذوبُ .. وأن الأرواحَ
إن تآلفت .. صعُبَ على المحبينَ
سلكَ دربٍ لا تألفَهُ القلوبُ ..
 

ليست هناك تعليقات :